Thursday, November 10, 2005

مطاريد جبل الحلال


مخطئ من يظن أن الأمور هدأت فى شمال سيناء، والرئيس مبارك يرتكب خطأ جسيما لو ظن أنه باستضافة أربعة إلى خمسة أشخاص باللباس البدوى أثناء إلقائه خطاب الفوز بالانتخابات قد أعاد الهدوء لنقطة مصرية ملتهبة على الحدود مع إسرائيل. الأوضاع المتدهورة فى الشمال السيناوى لا يمكن أن تحل بالعضلات الأمنية، أو بالمجاملات البروتوكولية. ولا أدرى لماذا لم يلتفت أحد إلى أن انتقال المطاردات إلى جبل الحلال يحمل تهديدا مباشرا للأمن القومى المصري. منطقة جبل الحلال التى تأوى اليوم مجموعة من الإرهابيين والخارجين عن القانون هى منطقة وعرة معزولة جغرافيا، تبعد عن أقرب مدينة مصرية بحوالى 200كم، وهى مدنية نويبع. كما تبعد عن الحدود الإسرائيلية بنفس المسافة تقريبا، ولا يربطها بالعريش سوى طريق أسفلتى مكشوف لمطاريد الجبل المقلق أن الهجمات الإرهابية الكبرى فى سيناء تركزت فى الشمال السيناوى أو خرجت منه، والأسماء المعلنة للمتهمين الرئيسيين تنتمى إلى قبائل شمال سيناء بالعريش، وهو أمر منطقي، وبديهى خاصة أن هذه القبائل ذات أصول فلسطينية ومشهورة بانحيازها للكفاح الفلسطينى المسلح، وهذه القبائل بالذات تعرضت للطرد والترحيل من صحراء النقب عام 48، وسلبت أراضيهم على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. وعانت من تدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية فى ظل الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، وواصلت الحكومات المصرية بعد التحرير معاملة هذه القبائل بعنف شديد، وبتجاهل منفر للعادات والتقاليد التى تحكم هذه المجموعة الأثنية. ومن ثم فشلت كل المساعى لتحويلهم، قسرا، من بدو رحل إلى سكان مدن حضرية على ساحل البحر الأحمر. وزاد الطين بلة، أن بدو الشمال لم يستفيدوا من حالة الازدهار الاقتصادى التى تمتعت بها قبائل الجنوب بفضل المشروعات السياحية الضخمة التى توجهت إلى منطقة جنوب سيناء. وقر فى وجدانهم الشعور بالظلم الاجتماعى بدعوى أن بدو الجنوب تمتعوا طوال الوقت بخيرات سيناء، وعاشوا أياما جيدة حتى فى ظل الاحتلال الإسرائيلى الذى تعامل معهم بقفازات حريرية. بينما تحملوا هم عبء الاعتقالات والمطاردات الأمنية الإسرائيلية لمشاركتهم فى العمل الفدائى بعد 67. ولم تفطن أجهزة الإدارة المحلية المصرية بعد التحرير لهذه المشكلات المعقدة. ولم تدرك أن العلاقات متقطعة بين بدو الجنوب الذين يتركزون فى دهب ونويبع وسانت كاترين ويجتمعون فى تحالف قبلى قوى يعرف بالطوارة، وبدو الشمال الذين دفعتهم ظروفهم الاقتصادية السيئة إلى الدخول فى صراعات مستمرة، وفى نهاية المطاف تدفعهم سياسات القمع والقتل والتعذيب والاعتقال الجماعى إلى العداء للسلطات المصرية، وربما مساعدة جهات إرهابية انتقاما من آلة القمع التى لا تتوقف، ولا تريد أن تدرك أن حل المشكلة فى شمال سيناء يكون بإجراء دراسات أنثروبولوجية جادة، وإقامة مشروعات اقتصادية توفر فرص عمل حقيقية، وإشعار بدو سيناء بأنهم مواطنون لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات فى دولة تحترم كل مواطنيها.

Labels:

Tuesday, November 08, 2005



رحلة داخل أنفاق المقاومة
آلات الحفر البشرية تعمل فى عمق 12 مترا لتفادى الجدار
الفلسطينيون ابتكروا أنفاق تيك أواى تستخدم مرة أو مرتين..النفق يتكلف 30 ألف دولار حفر..ومثلهم خلو رجل..
سعر الكلاشينكوف هبط من 600 إلى 200 دولار..النفق يدر على أصحابه نصف مليون دولار فى العملية
أجرة الحفار حوالى 400 جنيه فى الوردية


لو كان الأديب الفلسطينى الأبرز غسان كنفانى على قيد الحياة، لتصدى فورا لكتابة رواية عن الحياة داخل الأنفاق. ليبهر العالم مرة أخري، ويترك قشعريرة تنساب فى أوصاله كتلك المنبعثة من رجال فى الشمس.
شلومى ألدار المراسل العسكرى بالتليفزيون الإسرائيلي، أصدر قبل أسبوعين كتابا مهما بعنوان غزة كالموت، وبمناسبة هذا الكتاب قام برحلة خطيرة، ونشر واحدا من أهم وأخطر التحقيقات الصحفية عن غزة ما بعد الانسحاب، تحقيق صحفى من داخل الأنفاق التى تربط رفح المصرية برفح الفلسطينية.. رحلة تكشف أبعادا مجهولة عن اقتصاديات الأنفاق أسفل القطاع، وبامتداد الحدود المصرية -الفلسطينية. تلك الاقتصاديات التى تتضاءل أمامها أهمية البندقية بالمقارنة بالسلع الغذائية التى تصل لأهالى غزة الذين حرموا من التبادل التجارى مع مصر لمدة 38 عاما بسبب الاحتلال الإسرائيلى الذى سيطر على غزة من البر والبحر والجو. والأهم، من وجهة نظرنا، هو البعد الغائب فى هذا التحقيق الصحفي، وهو مستقبل هذه الأنفاق بعد تولى حرس الحدود المصرى مهمة السيطرة على محور صلاح الدين، وهل تواصل دبيب الحياة تحت الأرض لا يشكل مخاطرة حقيقية بالأوضاع الأمنية فى سيناء.
الحقيقة أن الأوضاع على الحدود المصرية الفلسطينية ليست تحت السيطرة الكاملة، وأهالى شمال سيناء يعانون أوضاعا اقتصادية متدهورة تدفع بعضهم للانخراط فى أعمال مجرمة قانونا، وإذا كان الرئيس مبارك ينادى دائما، بتحسين الأوضاع الاقتصادية لأهالى غزة، فمن باب أولى أن تلتفت الدولة المصرية إلى الأوضاع الاقتصادية المتدهورة فى محافظات شمال سيناء، وبخاصة فى رفح والعريش والتى تدفع موجات من سكان هذه المحافظات للعمل فى التهريب بكل أنواعه.

كابوس مرعب
تبدأ الحكاية من أن رفح، مدينة مقسمة إلى شطرين الأول فى مصر والآخر فى فلسطين، وإذا كان إقليم وزير ستان على الحدود الباكستانية الأفغانية يثير اهتمام العالم، فإن رفح تصارع لاحتلال هذه المكانة بسرعة وثبات مفزعين. لقد ظلت أنفاق رفح على مدار سنوات طويلة كابوسا يطير النوم من جفون الجنود الإسرائيليين. شباب تتراوح أعمارهم ما بين ال 15-18 يحفرون الأنفاق بأيديهم تحت محور صلاح الدين. وفى كل عملية تهريب يدخلون إلى غزة بضاعة تقدر بحوالى نصف مليون شيكل: سلاح، مواد متفجرة، مخدرات، أشخاص مطلوبين. والآن، وبعد الانسحاب الإسرائيلى فحسب، يمكن أن نفهم وندرك ما حدث، بالفعل، تحت أقدام جنود الاحتلال. وذلك بمناسبة صدور كتابه غزة كالموت للصحفى شلومى إلدار، الذى سافر إلى رفح، فى مهمة من قبل صحيفة هاارتس، ليسمع من آلات الحفر البشرية جابر، ومؤنس، وداود، وصار أول إسرائيلى يدخل إلى الأنفاق، ويبدأ رحلته تحت الأرض.
لحية سوداء مهذبة..ومعطرة، تنم عن انتماء صاحبها لحركة المقاومة حماس. اللحية نفسها تغطى وجها لشاب صغير فى مقتبل العمر. لكن نظرة العين مختلفة، إنها نظرة شخص ناضج، تتناقض مع ملامح الوجه الطفولي..جابر يبلغ من العمر 18 عاما. مهنته..حفَار أنفاق. ارتبك عندما أمره صاحب العمل أن يحكى عن أسرار مهنته الفريدة من نوعها لذلك اليهودي. شعر بأنه لا يفهم شيئا بالمرة، نظرته الناضجة، اكتست بالاندهاش والذهول. السرية المطلقة هى أحد شروط العمل فى هذه المهنة الفريدة التى أنعمت بها مدينة رفح على عاطليها. تلك المهنة التى صارت نقطة النور الاقتصادية الوحيدة بمدينة رفح الواقعة عند نهاية النفق.
إلى جوار جابر وقف زميلاه فى المهنة، مؤنس وداود. كلاهما، شأن جابر، يتمتعان بالشجاعة، وبمهارات لا يملكها إلا أشخاص نادرون..حصلوها بالمثابرة والعمل الدءوب طوال سنوات الانتفاضة. الثلاثة يمكنهم العمل لمدة تسع ساعات على الأقل تحت الأرض. كأنهم آلات حفر إليكترونية تشق طريقها بعناد وصبر نحو الطرف الآخر. الثلاثة يفضلون عتمة النفق على شمس رفح الساطعة التى لم تحسن إليهم أبدا. بصبر أيوب، وثبات انفعالى غير محدود، وقدرة على المضى قدما يشقون دروبهم فى أعماق بحر الرمال الخانق الذى لا تخترقه نسمة هواء واحدة.

تحت الأرض
كيف يمكن لإنسان أن يبقى مدفونا على مدار ساعات طويلة على عمق 12 مترا تحت الأرض؟
مجرد طرح السؤال، يدفعهم للابتسام خجلا، ويردون بصوت يزهو: لا شيء، الأمر كله بسيط، أبسط من كلمات السؤال، الجو بارد ورطب بالأسفل، لكنه منعش أيضا.
أمضى شلومى ألدار، وهو صحفى يسارى 42 سنة ثلاث سنوات كاملة يحاول مقابلة شخص ممن يعملون فى حفر الأنفاق لاستكمال كتابه عن انتفاضة الأقصى الذى يوضح فيه جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلى بحق سكان غزة. أمضى ثلاث سنوات فى البحث دون فائدة. لم ينجح حتى فى الإمساك بطرف خيط يقوده إلى حفَارى الأنفاق. تماما كجنود الجيش الإسرائيلى الذين عسكروا فوق محور صلاح الدين وأداروا حربا خاسرة ضد أكثر المشروعات ربحية فى القطاع. على طول المحور شيد الجيش الإسرائيلى جدارا فولاذيا قبيحا وصدئا. يرتفع عن الأرض 9 أمتار، ويغوص فى أعماقها ستة آخرين. وأعلن قادة الجيش الإسرائيلى أن أساسات هذا الجدار الفولاذى المدفونة فى أعماق الأرض ستمثل حاجزا أرضيا يعيق عملية حفر الأنفاق للأبد. وفى أحضان هذا الجدار شيد جيش الاحتلال خمسة مواقع عسكرية من الخرسانة المسلحة، مزودة بأحدث الامكانيات التكنولوجية هى على التوالي: حردون، ترميت، جيريت، جي-واي-تي، وموقع ألوف أو اللواء. وحول هذه المواقع شُق طريق للدبابات التى تحركت على محور صلاح الدين، وناقلات الجنود المدرعة، وأجهزة الرادار، ومعدات المراقبة النهارية والليلية. هذه الحركة العسكرية فوق الأرض، تزامنت مع تحركات دءوبة فى باطنها، لقد قبلت آلات الحفر البشرية التحدي، وصدر القرار بأن تحفر الأنفاق على عمق 12 مترا فى باطن الأرض الرملية، تاركين الجدار الفولاذى والوسائل الدفاعية المتطورة المنصوبة فى أعلى بلا جدوي، وبلا قدرة على وقف عمليات التهريب.
وعلى هذا النحو الساخر بقى رأس الجدار معلقا فى الهواء، وأقدامه مدفونة فى الرمال، لكن ليست بالعمق الكافى لوقف آلات الحفر البشرية، التى استطاعت بوسائلها البدائية أن تسخر من التكنولوجيا الإسرائيلية-الأمريكية التى كرست أخر ما توصلت إليه لمحاربة دراما الأنفاق.

جدار الصمت
فى محاولة سابقة لعقد لقاء بين أحد الخبراء فى حفر الأنفاق برفح، والصحفى شلومى ألدار، رد عليه قيادى فلسطيني..أنت اتجننت؟!. من الذى سيخاطر ب150 ألف دولار لكى تكتب أنت تحقيقا صحفيا، أو حتى كتابا جديدا؟!
150 ألف دولار، تكلفة حفر النفق 150 ألف دولار؟
يرد الفلسطيني: لا، حفر النفق اليوم يتكلف أقل، أقل بكثير، الأسعار انخفضت. مطاردات جيش الاحتلال لحفَارى الأنفاق وأصحابها حققت نتائج. لقد تسببت هذه المطاردات، بشكل عجيب، فى خفض المستوى الفنى للنفق، ومن ثم انخفضت تكلفة الحفر فى المقابل. فقد أدرك أصحاب الأنفاق المقاولون أنه لا توجد فرص لشق نفق يصمد عبر السنين، ولذلك صار من الأفضل شق أنفاق تيك أواى تستخدم مرة واحدة، أو مرتين على الأكثر، قبل أن يتم كشفها.
وحتى بعد الانسحاب الإسرائيلى من غزة لم تتلاش إمكانية الإبلاغ عن وجود نفق، وكشف أصحابه، لكن مستوى التوتر والمخاطرة انخفض بصورة واضحة. فى الماضى كان شك جيش الاحتلال فى وجود نفق يسفر عن قصف مدفعى للمنزل، أما الآن، بعدما أصبحت السلطة الفلسطينية مسئولة عن القطاع، فإن الأمر قد يسفر عن تحقيق لمدة ثلاثة أيام، ثم أمر بالاعتقال. ووفقا لهذه المعادلة الجديدة، فإن الثمن الباهظ الذى يحصل عليه خبراء حفر الأنفاق يساوى مخاطرة الاعتقال.
شلومى ألدار توصل بعد الانسحاب الإسرائيلى من القطاع إلى طرف خيط يقوده إلى هدفه، شريطة ألا يصور وجوه الأشخاص الذين سيلتقى بهم، وألا يكشف مكان الحفر الحالي. فى أول اللقاء خيم الصمت عليهم، كان من الصعب عليهم أن يفتحوا أفواههم، ويتحدثوا إلى شخص إسرائيلى عن أسرار مهنتهم التى واجهوا بها كل قوات الاحتلال. اقترح عليهم أن يخرجوا جميعا فى جولة تعارف على طول محور صلاح الدين، على أمل أن ينشق جدار الصمت بينهما، كما شق أهالى رفح فتحات فى الجدار الفولاذى الذى تحول بين عشية وضحاها إلى محطة حدودية مرتجلة بين سيناء وقطاع غزة. مسارات التهريب طفت على السطح وسبحت لعدة أيام فوق وجه الأرض، الأمر الذى أدى إلى خفض أسعار السلع والبضائع المهربة. وترك أصحاب الأنفاق فى حالة خوف وجودى من فقدان مصدر الرزق، والنفق الذى يبيض ذهبا. لكن المحنكين منهم، قالوا بهدوء، لا داعى للقلق..الحدود ستظل مغلقة كما كانت. أصحاب الأنفاق، والمستفيدون من عمليات التهريب سيعملون على ذلك.
المسألة أكبر من مجرد لوبى أصحاب مصالح، إنها حياة اقتصادية كاملة نبتت فى مدينة فقيرة، تعانى نسبة بطالة مرتفعة، والبطل الحقيقى فيها، أو اللا بطل بمصطلحات النقد الأدبي، هو الاحتلال الذى سيطر على الجو والبر والبحر. أسفل محور صلاح الدين توجد عشرات الأنفاق المردومة، بعضها هدمه جيش الاحتلال، لكن المقاولين يطمئنون أصحابها: ما كسر يمكن إصلاحه، تلك الأنفاق سنرممها، كما حفرناها أول مرة. سنحفر فتحة جديدة فى اتجاه أخر، ونربطها بالنفق من منتصفه وبذلك نوفر مئات الأمتار التى حفرت من قبل واستوجبت جهدا جبارا، وساعات عمل طويلة.
كل الأنفاق التى هدمها جيش الاحتلال، دخلت اليوم مرحلة الترميم. أصحاب الأنفاق التى هدمها الاحتلال معنيون، اليوم، باستنقاذ مشروعهم الذى طواه النسيان، ويبحثون عن وسيلة تربطهم بالجزء السليم من النفق الذى لم يتهدم بعد.
كم عدد الأنفاق التى تمر أسفلنا؟
ضحك مؤنس: ياااه..كثير.
كم، عشرين؟
أكثر، ربما مئة على طول المحور، لكن بعضها لا يعمل، والآن بالذات بعد انخفاض الأسعار، كما أن الأوضاع الجديدة مع المصريين غير واضحة. الجميع ينتظر، ويفكر كيف نستأنف نشاطنا.


سوق التهريب
لو كنت صاحب نفق فى رفح فأنت تملك منجما للفحم بمفاهيم أثرياء شرق أفريقيا. لكنه منجم مكلف، حيث أن عملية شق نفق متوسط الطول حوالى 800 متر، من حى البرازيل الفلسطينى وحتى رفح المصرية تتكلف 30 ألف دولار فى المتوسط. ويجب أن تضيف إلى ذلك خلو رجل لصاحب المنزل الذى تبدأ من عنده فتحة النفق، حوالى 30 ألف دولار أخري. أى أن تكلفة النفق الإجمالية قد تصل إلى 60 ألف دولار، وهو مبلغ ضخم بالنسبة للوضع الاقتصادى فى غزة، لكنه نقطة ماء فى بحر المكاسب، بالنظر إلى حجم الأرباح التى يدرها النفق النشط، خاصة عندما يكون القطاع ظمآن للسلع والبضائع المستوردة من مصر.
مثل البورصة، أو سوق الأوراق المالية، فى النفق ترتفع وتنخفض الأسعار طبقا لنظرية العرض والطلب. عندما يكون السوق عطشان تعمل الأنفاق بكامل طاقتها، ويرتفع سعر البندقية الكلاشينكوف إلى 600 دولار. تلك البندقية التى لا يتجاوز سعرها فى الأيام العادية 250 دولارا، وهو سعر، كل صاحب عقل راجح فى غزة مستعد لدفعه لقاء الحفاظ على أمنه وأمن عائلته من أى هجوم محتمل.
فى الأسابيع الماضية عندما عمت الفوضى المنطقة الحدودية بين مصر وفلسطين، ودارت عجلة التهريب منزوعة الفرامل، هبط سعر البندقية الكلاشينكوف إلى أقل من 200 دولار..بيعت بالخسارة، وفقا لقائمة الأسعار داخل النفق. أصحاب الأنفاق الأذكياء أوقفوا العمل، حتى يعود التوازن للسوق من جديد.
نظرية العرض والطلب تؤثر أيضا على أجر آلات الحفر البشرية فى الأيام العادية يحصل الحفار على خمسين دينارا يوميا، حوالى 325 جنيها مصريا. مساعد الحفار يحصل على أجر يتراوح ما بين 30-40 دينارا..أجور خرافية بالمقارنة مع مستوى الأجور فى القطاع.
ويدر النفق النشط على أصحابه حوالى نصف مليون دولار فى العملية الواحدة. يهربون كل ما يمكن تهريبه: سلاح، ذخيرة، مواد متفجرة، قنابل يدوية، مخدرات، سلع غذائية، سجائر، مصريين خارجين عن القانون، يريدون الهرب من المخابرات المصرية، ويبحثون عن لجوء إجرامى لدى مهربى غزة..والثمن فى متناول اليد 20 ألف دينار غير شاملة ثمن الوجبة، والضيافة، وشركة التأمين! أصحاب الأنفاق مستعدون دائما لبيع تذكرة فى اتجاه واحد للهاربين من مصر، وللراغبين فى العودة لغزة من أولئك الفلسطينيين الذين طردتهم سلطات الاحتلال.
سامى أبو سمهدانة، أحد أبناء عائلة فلسطينية أغلب أفرادها من المطلوب القبض عليهم، سبق أن اضطر لعبور هذا الطريق، كان قد خرج من القطاع إلى مصر لتلقى العلاج بتصريح من حكومة باراك، وعندما حانت لحظة العودة، تبين أنه أثناء فترة علاجه جرت فى إسرائيل انتخابات جاءت بشارون الذى أغلق المعابر. وفى إحدى الليالى المقمرة دلف سامى إلى أحد الأنفاق، وقبل أن يطلع نور الصباح كان يتمدد على فراشه بمنزله فى خان يونس. لكن أحد خصومه أبلغ عنه، ومنذ ذلك الوقت وهو يتربع الخانة رقم 20 فى قائمة المطلوبين الأمنيين لدى إسرائيل.
قرر الفلسطينيون وضع الصحفى الإسرائيلى شلومى إلدار فى أكثر من اختبار حتى يطمئنوا إلى أنه ليس عميلا للمخابرات الإسرائيلية جاء لجمع المعلومات عنهم. وبعد أن اطمأنوا إليه..اصطحبوه إلى موقع ملائم لحفر نفق جديد. المقاول اتفق مع صاحب المنزل على شرائه، بشرط أن يبقى الرجل وأسرته داخل المنزل، ويعيشوا حياتهم اليومية بشكل طبيعي، حتى يبقى الأمر سرا على الجيران..أى خطأ صغير قد يعرضهم للخطر. ففى مسألة الأنفاق الخطأ الصغير يتحول بقدرة واشى إلى خطر مصيري.
صاحب البيت أصر على أن منزله المتهاوى الذى لاحت جدرانه كالمصفاة بفعل طلقات الجيش الإسرائيلى يساوى ثلاثة ألاف دينار. لكن المقاول لم يساومه، قال له: خذ عشرة ألاف، شريطة أن تبقى فى منزلك، وتعيش فى غرفة واحدة أنت وأولادك..هكذا أبرمت الصفقة، وتصافح الطرفان.
هناك إمكانية أخرى فى مثل هذه الحالات، وهى الدخول فى شركة. إذا كان هناك بيت كبير يمكن تعبئة جميع حجراته بأكياس الرمال بدلا من إخلائها الذى قد يتسبب فى شعور الجيران بحركة غير عادية بالداخل، وفى هذه الحالة، يصر صاحب البيت على تقاسم الأرباح التى سيدرها النفق مع المقاول.
ويكمل داود القصة: بعد شراء البيت، ننتظر من أسبوعين إلى شهر..نراقب المنزل، وسلوك الناس فى الحي..ثم نبدأ العمل ببطء، دون أن يشعر بنا الجيران.
كم شخص يشاركون فى الحفر؟
حسب المدة المقررة للانتهاء من الحفر، وطول النفق. عادة نكون ستة أشخاص، ويستمر العمل مدة 6 شهور، نوبتين يوميا. يبدأ العمل من السادسة صباحا حتى الثانية بعد الظهر، ثم تبدأ النوبة الثانية.
دوريتا عمل يوميا، 8 ساعات فى النوبة الواحدة، العمل يتوقف مرتين فقط للأكل، والراحة. مثل أى مكان عمل منظم. داود وجابر ومؤنس يتحدثون عن عملهم فى حفر الأنفاق، وكأنهم عمال فى منجم فحم. لكن فى رفح لا توجد نقابات ولا تنظيمات ولا جمعيات، ولا نضال من أجل تحسين شروط العمل. فهم يعتبرون أنفسهم مجموعة عمل متجانسة، تسودها روح الفريق، يفهمون بعضهم بعضا بطرفة عين، أو حركة حاجب..عندما يحفرون لا يوجد وقت ولا مجال للشجار. إذا غضب أحدهم من زميله يجب أن يستمر فى الحفر، لا يوجد مكان قد يذهب إليه وسط هذا البحر اللامتناهى من الرمال، لذلك يفضلون ألا يقع شجار بينهم.

رمال رفح
الرمال الصحراوية الصفراء، والأرض الرطبة اللزجة فى رفح هى حلم كل حفار أنفاق. الثلاثة يعلمون جيدا ميزات وعيوب هذه التربة المقفرة. داود قائد الفريق..الحفار رقم 1، يمسك سكين المعجون فى يده، سكين من نوع خاص، صنعها بنفسه، ولنفسه.. زميلاه يحملان معدات أكبر حجما، آلة حفر صغيرة، ومعاول، وعجلة يد تتحرك على كوابل بطول النفق.
مؤنس يملأ العجلة بالرمال التى تتدفق تحت أقدام داود الحفار، ويدفعها للخلف. الأخير فى الصف يفرغ الرمال فى أكياس يتم إخلاؤها فيما بعد عندما تكون المنطقة آمنة. داود يرفض بإصرار استخدام آلة حفر كهربائية..فهى تنشر ترابا وعفارا كثيرا يجعل العمل مستحيلا تحت الأرض..حتى فى حفر الأنفاق، يتضح أن العمل اليدوى أكثر فاعلية من الآلات الحديثة.
ما هو ارتفاع النفق؟ هل تستطيعون الوقوف بداخله؟
لا طبعا..لكى نحفر نفقا نقف فيه بطولنا، يستلزم الحفر مجهودا مضاعفا. فالمتر المربع يملأ عجلة كاملة بالرمال..لا داعى للمخاطرة. ارتفاع النفق لا يزيد على 80 سم، هذا الارتفاع يتيح لنا أن ننزل على ركبنا..ونعمل بهدوء..وعندما نريد أن نرتاح.. أحفر فى أحد الجانبين مساحة للراحة..تلك المساحة الصغيرة تكفينى للنوم، واضعا رجلا على الأخري، وتدخين سيجارة أيضا.
بعد حفر خمسة أمتار فى باطن الأرض تبدأ عملية التوجيه، جابر يخرج تليسكوب، أو ماسورة كما يسميها، يستخدمها كما يستخدم قائد الغواصة البريسكوب لرؤية ما يحدث فى الخارج. داود يعمل بالبوصلة، لكنه يميل للتأكد بالماسورة وبعينيه أن العالم مازال موجودا أعلى النفق. كل خمسة أمتار يقف ويبدأ فى شق ثقب لأعلى ليتأكد أنه لم يضل الطريق.
داود يعتبر نفسه محترفا، والاحترافية فى الحفر تعنى القدرة على تفادى المخاطر التى تضعها الأنفاق فى طريق الحفَارين. فالجيش الإسرائيلي، أو اليهود كما يسميهم الفلسطينيون أدركوا نقطة ضعف الأنفاق، وبدأوا فى ضخ المياه بانتظام فوق محور صلاح الدين لتنهار الأنفاق فوق رؤوس الفلسطينيين.
لكن الحفارين تعلموا كيفية التغلب على هذه المشكلة، باستعمال حاسة الشم. داود مشهور بين رفاقه بقدرته العجيبة على الشم من بعد. وهو فخور بذلك، ويقول أشم المياه بأصابعي. عندما ألمس الرمال الرطبة..أتوقف لحظات لأفكر..حياتى وحياة زملائى فى خطر الأمر يستحق التفكير. أحيانا تندفع المياه باتجاهنا..أفرش كيسا من النايلون، وأثبته بلوح من خشب الابلاكاش.. وأسد كل الفتحات..ثم أبدأ الحفر فى اتجاه أخر لتفادى مسار المياه. أحيانا نضطر للحفر مئة متر إضافية بسبب المياه.
وماذا عن الهواء، الأوكسجين؟ هل تستخدمون بالونات هوائية؟
شعروا بالإهانة، رد الثلاثة فى نفس واحد: ماذا تقول؟! لسنا هواة لنستخدم أنابيب هواء. فى النفق يجب أن تعتاد على كمية هواء أقل، وتنظم نفسك، حتى تصل إلى مستوى تنفس عادى ومقبول. الهواء تحت متوفر..كما أننا نستخدم كومبروسور يضخ الهواء بانتظام.

هلال المقاومة
جابر يشرح بيديه طبيعة تكوين النفق، وهو عبارة عن هلال يبدأ فى رفح الفلسطينية، وينتهى فى رفح المصرية..لكن الأمر مختلف جد الاختلاف على الجانب الأخر من النفق، فى الجانب المصرى يقول جابر: السلطات المصرية لا تعرف اللف والدوران. البيت الذى يعثرون بداخله على نفق يعنى أن عقوبة الموت أنزلت بالجميع. لا مجال للألعاب والمراوغات. هناك القانون قانون..والعقاب عقاب. لذلك نحن لا نفتح النفق فى بيت مصري، نفتحه دائما فى أحد الحقول حيث يتم تغطية الفتحة بأوراق الشجر. ونتفق مع شخص يلعب دور رجل الاتصال مقابل ألف دولار فى الشهر..كل مهمته حراسة الفتحة وإغلاقها وقت اللزوم.
ويضيف مؤنس: تعرف، على الرغم من ذلك بعد الانسحاب الإسرائيلى عبر عدد من الفلسطينيين واشتروا بيوتا على الجانب الأخر فى أماكن جيدة على أمل أن تكون مشروع المستقبل.
انتهت الرحلة الصحفية المرهقة داخل النفق..لكن ما يمكن أن نطلق عليه اقتصاديات الأنفاق فى رفح المصرية ورفح الفلسطينية لا يمكن أن ينتهى بسهولة. والأوضاع الأمنية المتدهورة فى شمال سيناء تنذر بمخاطر حقيقية. بعض المصريين يضطرون للعمل فى التهريب عبر الأنفاق بسبب الفقر المدقع الذى يعيش فى ظله سكان محافظات شمال سيناء، والحل ليس باستعراض العضلات الأمنية، ولكن بتوفير فرص عمل شريفة لأهالى سيناء، ودمجهم فى السياق المصرى كمواطنين لهم نفس الحقوق، قبل أن نطالبهم بنفس الواجبات.

مـحــمــد عــبــود

Labels:

eXTReMe Tracker