Sunday, December 10, 2006

هوجو شافيز.. رائحة عبد الناصر



عندما برز الشاطر حسن في لبنان.. انتعشت نفوس العرب، وانتفخت صدورهم فخرا وعزة.. وقفزت عقولهم، دفعة واحدة، ثلاثة عقود للوراء، تذكروا جمال عبدالناصر. تُطل عليك صور "ناصر" وحدها في المظاهرات، ولحظات الكرامة، لتعلن أن كل من جاءوا بعده "قبض الريح".. مجرد "مساحة سوداء قاتمة" في جسد الزمن، تأبى أن تنقشع!
هذا الأسبوع دق "ناصر" باب الذاكرة من جديد..عندما فاز "هوجو".. للمرة الثانية، فتسرب عطر ناصر منعشٌا كريح البحر. يؤكد الروائي الألماني "زوسكند" أن لكل شخص عطره الخاص، والعطر مثل بصمات الأصابع..نسخة غير قابلة للتقليد.. لكنه قابل للتسرب شرقاً وغربا. لذلك لا تندهش من ظهور شافيز على شاشة "الجزيرة"، ليقول: "أنا ناصري مند كنت طالبا بالكلية العسكرية، وأرى أن مبادئ عبدالناصر مازالت صالحة للتطبيق، رغم الكلام الغريب الذي أسمعه من المؤمنين بفكر عبدالناصر عن صعوبة ذلك". لم يدل بهده التصريحات بحثا عن شعبية، سبق وحققها في الوطن العربي بمواقفه الشجاعة. لكن المثير حقا، أن قرارت الرجل تثبت أنه درس تجربة عبدالناصر، واستوعبها جيدا. واستنسخ بعضا منها بما يناسب طبيعة الساحة السياسية في بلاده.


يقول عنه حسن نصر الله مخاطبا "رجال الله": "بصمودكم ومقاومتكم أستطيع ان أحيي رجلا عربيا.. عربيا.. عربيا.. اسمه شافيز على ما قاله أمس في الأمم المتحدة".

"شافيز العربي".. كلما قابلت شخصا، وذكرت اسمه، يبادرك بأوجه الشبه بينه وبين ناصر. درس في كلية عسكرية، ويردد دائما: "من أجل القضاء على الفقر، يجب إعطاء السلطة للشعب". وهي جملة تتفق، بالطبع، مع مبادئ يوليو. وتميز كما عبدالناصر، بدعم حركات التحرر، وبعدائه لسياسات أمريكا.
ولد في 28 يوليو 1954، بعد عامين من الثورة. وتربى في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى كما عبدالناصر، فكان والده أستاذا متواضعا وتولت جدته تربيته. وفي السابعة عشرة التحق بالكلية العسكرية في كراكاس، حيث اكتشف في نفسه طموحات غذتها صحيفة تشي جيفارا والأسطورة سيمون بوليفار صانع الاستقلال الوطني. وبتأثير من فكر ناصر خطط شافيز لأكثر من محاولة ثورية معتمدا على القوات المسلحة.وساند محاولة عسكرية عام 1992 لإنهاء حكومة كارلوس اندريس بيريز الغارقة في الفساد.


بعد توليه السلطة، تعرض لمحاولة انقلابية ناجحة أدراتها الـسي اي إيه. واعتُقل بالفعل في 12-4-2002، وفي اليوم التالي خرجت وسائل الإعلام الخاصة تقول: "انتهى عصر شافيز"، تماما كما فعل الإعلام الإسرائيلي عقب حرب 67. ساعتها، تدفقت الجماهير المصرية، مطالبة ببقاء ناصر. المشهد نفسه تكرر في كراكاس، عندما احتشد الناس في الميادين، وعاد شافيز بعد 48 ساعة فقط بفعل الضغط الشعبي، وإخلاص المؤسسة العسكرية التي لم تشأ أن تكون جسر الولايات المتحدة إلى السلطة. وقف "شافيز" في شرفة قصر الرئاسة يعلن بداية مرحلة جديدة من التفاهم والمصالحة، ووعد بألا يسمح بأية ملاحقات سياسية أو تجاوزات ضد حرية الرأي والتعبير، في تصريحات أشبه ببيان 30 مارس 1968.

تشابهات عدة، منها إقدام الزعيم الفنزويلي على تنظيم استفتاء شعبي أقر تعديلا دستوريا أصبح اسم البلاد بموجبه "جمهورية فنزويلا البوليفارية". والاتجاه شرقا لتعزيز التعاون مع روسيا. ويحظى شافيز، مثل ناصر، بتأييد الفقراء بفضل إقامته شبكة من المراكز الاجتماعية المعروفة بـ"البعثات" يمولها من العائدات النفطية التي أممها لصالح الفقراء، مما أكسبه عداء شديدا في صفوف النخب الرأسمالية.



اعتاد "هوجو" أن يرتدي الزي العسكري، ويضع الكاب الأحمر كما كان يفعل "تشي جيفارا"، ويفعل الآن "فيدل كاسترو".. واعتاد أن يستخدم نفس الخطاب الثوري الذي استخدمه المحرر اللاتيني "سيمون بوليفار"، وأبوخالد. ورغم أن البعض يراهن أن العصر قد تغير، وأن "الثورية" أصبحت جزءاً من التاريخ، فإن شافيز رئيس رابع أكبر منتج للنفط في العالم وثالث أكبر مصدّر للنفط إلى الولايات المتحدة- يُصِرُّ على أن النفط والثروة لا يمكن أن يحلا مكان الثورة التي جاءت من أجل الفقراء. ليضع الثوريٌّ الذي جاء إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع خصومه في الخارج - وخصوصًا واشنطون- أمام معضلة سياسية.
فمن ناحية التقاليد السياسية الأمريكية يعد شافيز منتخبا من قبل شعبه، ويجب عدم إزاحته إلا عبر وسيلة ديمقراطية. وهو يجلس على برميل نفط قريب من أمريكا، لكنه ليس في متناول يدها، تسعى إلى استغلاله وليس مجرد استثماره. تريد أن يتحول إلى أداة مساعدة فإذا به يتحول إلى نمر شرس يقف عائقًا أمام خططها لخفض أسعار النفط، فكلما حاولت احتواء بعض رجال الأعمال أو الإعلام وقف لهم "شافيز والشعب" بالمرصاد، وكلما تحدته أمريكا زاد في ثباته.


هو ببساطة "مقاوم".. يزور العراق، ويصادق كوبا، ويتودد إلى القذافي، ويدعم الثورة في كولومبيا وحزب الله في مواجهة إسرائيل، ويعلن بقوة: "نحن الدول الصغيرة الفقيرة والمتخلفة.. لا نملك من الخيارات سوى الاتحاد". ولا يكتفي بالكلام وإنما يحاول جاهدًا مناهضة الهيمنة الأمريكية، فدشن علاقات قوية مع من تعتبرهم الولايات المتحدة أعداء لها، وقَّع مع الصين اتفاق تعزيز علاقات، كما وقَّع اتفاقًا آخر مع إيران لتعزيز التعاون الصناعي والزراعي. واجتمع مع مرشد الثورة الإيرانية "خامنئي"، ولم يخف أن ينعت الولايات المتحدة بأنها الشيطان الأكبر على عادة السياسة الإيرانية. كلماته طلقات مدافع ثقيلة لم تتعود الإدارة الأمريكية أن تسمعها ولو عن بُعْد؛ ولذا فأمريكا لا تتورع أن تعلن مناصبته العداء، على لسان "كولن باول" و"جورج تينت"، خاصة بعد أن ظهوره المتلفز، عام 2001، وهو يحمل صورًا لضحايا مدنيين أفغان، الأمر الذي دعا واشنطن إلى سحب سفيرتها من "كاراكاس".


صورته وتصرفاته تعيد للأذهان ملامح ناصر، فنحن لم نجرب مغناطيس الكاريزما في منطقتنا سوى مع الشاب الصعيدي الشهم. وشافيز يتمتع بكاريزما ساحرة..طلته أسرت الشعوب العربية، كما أسرت مثيلاتها اللاتينية. حب العرب لشافيز يعبر عن شوق لزعيم قوي، محبوب، وعن افتقاد لسياسات مستقلة، وشعور بالكرامة، وتمنيات أن يزكم عطر "هوجو" أنف حاكم عربي واحد!

Labels:

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

eXTReMe Tracker