Tuesday, October 31, 2006

الشامي.. رفيق الخندق والجامعة.. ستبقي الراية بعلمك


مازلت أتذكر المكتب الذي يغلب علي كراسيه وستائره اللون الأخضر والهدوء في فرع اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس، حيث تقابلنا وتصافحنا لأول مرة عام ١٩٦٤، في ذلك العام انتقلت من مقاعد الطلاب بالقسم إلي مقاعد المعيدين، واستقبلني رشاد الشامي المعيد الذي سبقني بعام واحد في مودة وفي ترحاب عميق..
من يومها وحتي اليوم سجلت رفقة الخندق اليقظ دائما والساهر علي أمن حدود مصر الشرقية من أعدائها التاريخيين اثنين وأربعين عاما، كان هيكل الفرع مختلاً هرماً مكوناً من قمة يجسدها أستاذنا الدكتور محمد القصاص وقاعدة مكونة من أربعة معيدين وبين القمة والقاعدة فراغ، فلا أستاذ مساعداً أو حتي مدرس حاصل علي الدكتوراه حديثا، كانت الآنسة ألفت حفيدة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي زميلتنا الوحيدة وكان أحمد عفيفي زميل الشامي في التخرج هم كل رفاق الخندق في ذلك العام.. وقعت كارثة الهزيمة بسرعة في يونيو ١٩٦٧ فحولتنا من طلاب علم إلي قذائف مشحونة بالمواد المتفجرة الجاهزة للانطلاق وتفجير نفسها في حصون الأعداء التي شيدت علي حافة قناة السويس.
عبرت مصر عن روحها المتحدية دائما للهيمنة الخارجية وللغزاة، فاندفع إلي فرع اللغة العبرية مئات الشباب طالبين الانضواء في خندق القتال والتزود بذخائر المعرفة اللغوية والعلمية اللازمة لقتال العدو وتحمل جيلنا المسؤولية في إعداد كتائب هؤلاء الشباب المقاتلين الذين سرعان ما انتشروا في جميع فروع الأجهزة والقوات العسكرية لملء فراغ القتال المعرفي والمعلوماتي متنوع الأشكال.
في السادس من أكتوبر، كان كل منا يحمل الدكتوراه في المجال العلمي الذي رأي أنه أقرب إلي نفسه كسلاح قتالي أنجز الشامي الدكتوراه في الفكر الصهيوني ومدارسه وأنجزت الدكتوراه في أدب الحرب الإسرائيلي الكاشف عن ملامح الشخصية الإسرائيلية. قبل أن تغرب شمس أول أيام القتال، كنت مع الجندي المصري المعجون في تراب مصر رشاد الشامي مجتمعين في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام مع سيد ياسين وقدري حفني تحت رئاسة أستاذنا عالم النفس الكبير د. مصطفي زيور بمبادرة ذاتية من أفراد هذه الفصيلة العلمية المقاتلة، واتفقنا علي مشروع بحث لدراسة المفاهيم الأيديولوجية والسياسية والمشاعر الحاكمة لاتجاهات أسري الحرب الإسرائيليين الذين كانوا يتساقطون بأعداد وفيرة في أيدي قواتنا منذ الساعات الأولي للمعركة.
قام سيد ياسين بدور المنسق بين المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ومركز الأهرام ليمكن هذا الفريق من مقابلة الأسري وبدء الحوار العلمي المطلوب لجمع مادة البحث من خلال الحديث الحر معهم، وكانت التجربة مثمرة إلي حد كبير في تحديد مواقف الأسري، بشرائحهم المختلفة من جنود وضباط من مسألة التوسع في سيناء واعتبارها جزءاً من «أرض إسرائيل» واستطلاع استعدادهم لفكرة السلام العادل والمؤثرات التي تلون هذا الاستعداد بالتمنع أو القبول سواء كانت مؤثرات عسكرية أو سياسية.
لم تكن تلك هي المعركة الظافرة الوحيدة التي خضناها معا كرفاق خندق واحد، بل كانت المعركة الأولي في سلسلة معارك من أجل سلامة أرض مصر وحريتها، ومن أجل استعادة الحقوق الفلسطينية السليبة.
كان الشامي وهو الاسم الذي كنت أناديه به عالماً دؤوباً يكرس أوقاتا طويلة للابحار في المراجع العبرية، ضارباً فيها مجاديف البحث والترجمة، فأنتج للمكتبة العربية مجموعة ضخمة العدد من المؤلفات المعتمدة أساسا علي المصادر الأصلية في اللغة العبرية، وكان الشامي محباً لطلابه وصبورا معهم، يقضي مع الطالب الواحد الذي يشرف علي رسالته للماجستير أو الدكتوراه زمنا طويلا في حنان الأب وصبره علي أبنائه..
علي مدي الرحلة التي مضينا في قاربها معا اثنين وأربعين عاما كانت هناك حالة وحدة فكرية وعاطفية تجمع بيننا علي المستوي الشخصي وعلي المستوي العام علي حد سواء، لم نسمح من خلال صداقة عميقة قائمة علي المصارحة والمسامحة للخلافات - التي لا مفر منها في الحياة الإنسانية - أن تؤثر علي وجودنا المشترك في خندق واحد، كنت في معاركي العامة ألقي من الشامي المساندة بالرأي والدعم المعنوي،
وكنت أضغط بانتظام علي صديقي في محاولة لدفعه إلي الخروج من أسوار الجامعة التي تحصن بها، فلقد كنت أعتقد أن ظهوره في وسائل الإعلام سواء بالكتابة للجمهور الواسع في الصحافة أو بالحوارات التليفزيونية سيثري المعرفة العامة بالإسرائيليات، لكنه كان يفضل حسب طبيعته الشخصية البعد عن المعترك العام وما يحفل به من أشواك.
كان حوارنا حول الثقافات ونشوء الحضارات وتطورها متواصلا، وكان حوارنا حول طبائع الإنسان وشهواته وأطماعه التي لم تختلف كثيرا عن مرحلة النشأة متوافقا، وكان يردد في مناسبات عديدة حكمة وردت في سفر الجامعة تقول «لا جديد تحت الشمس.. الكل باطل.. الكل قبض الريح» غير أن هذا الحس التاريخي العميق بطبيعة الوجود والضعف الإنساني لم يمنع صديقي الشامي من خوض غمار معارك الحياة التي فرضت نفسها عليه.
كانت عنايته الفائقة بابنه أحمد وابنته رشا تثير إعجابي العميق وأذكر أن كثيراً من أوقاتنا الخاصة التي نمضيها معا كانت فترات بينية تفصل بين قيامه بإيصال ابنته إلي درس خصوصي وإعادة ابنه من درس ثم العودة لالتقاط الابنة، كان الشامي نموذجا للأب المصري المليء بالحنان والرعاية اللصيقة ذات الطابع الريفي الحميم لأبنائه.. أعتقد أن هذا النوع من الرعاية قد أثمر..
فعندما استدعاني ابنه أحمد ليفضي لي بحالة الشامي وهو في سرير المرض الأخير وجدت بطلا كامل النضج النفسي في صورة فتي لم يتخرج بعد من الجامعة. كانت عزيمة أحمد الشامي وإيمانه ورعايته لأبيه حاجزا دون تساقط دموعي المتحجرة.يرحمك الله يا رفيق.. فستبقي ما بقي علمك
بقلم د.ابراهيم البحراوي
المصري اليوم

Labels:

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

eXTReMe Tracker