رشاد الشامي..لا نقول وداعا
ليست مرثية لأستاذ
رشاد الشامي..لا نقول وداعا
وقفت متسمرا أمام الطبيب المعالج في غرفة العناية الفائقة..حاول أن ينتقي كلماته بعناية شديدة..وهو يخبرني أنها مسألة وقت، ساعات أو أيام على أقصى تقدير. لا أريد أن أصدق، حاولت أن أستوفي معه حلولا طبية أخرى، دون جدوى، لقد قضي الأمر.وصرت أشعر أن جزءاً حميما مني يندثر.
حاولت أن أتماسك تأسياً بالشاب الرصين أحمد رشاد الشامي..طالب الكيمياء النووية بكلية الهندسة..فقد شرع يستعد لمواجهة الموقف بمنتهى الصلابة والقوة..مؤكدا لي بتصرفاته الناضجة أن الابن سر أبيه..وأن د. رشاد الشامي ترك لنا رجلا في ثياب الشباب.
بكيت والدموع عزيزة عندما تنهمر من عيون الرجال..لكن في حياة كل منا شخص عزيز يندر تكراره..لا نتصور أن يرحل عنا، ولا نراه ثانية. فلا يفجع الروح ويفطر الفؤاد مثل الفقد، إنه أكثر الأحزان والآلام إيغالا في الروح والبدن، ذلك أن طعم مرارته يغص به الإنسان ليل نهار، ولا يستطيع التعايش معه أو استيعابه، وأكثر مرارات الفقد تجليا وفداحة هو الموت نهاية النهايات وغاية الغايات. إنه الفقد النهائي الذي يستعصي فهمه وفلسفته. ولهذا ربما كانت الفلسفة في تعريف من تعريفاتها، كما رآها أفلاطون هي "تأمل الموت" ومحاولة تفكيكه ومقاربته.. ما معناه؟ من أين يجيء؟ وكيف؟ وماذا يريد؟ وتكون مرارة الفقد أقسى ما تكون إذا اقترنت بالشعور بالعجز وانعدام الحيلة تجاه إنقاذ حياة من نحب..ونشعر أن حياتنا بلا معنى أو قيمة خلوا من تأثيره الروحي..ووجوده الطاغي على الوجود في ذاته.
داخل مبنى الكلية..لامست بكاء صادقا في عيون الجميع. لكني ظللت موصولا بخيوط الأمل..ربما تحدث "معجزة إلهية"..وينهض من جديد..كما عهدته محبا..قويا..مداوماً على "صالونه الثقافي" داخل قسم اللغة العبرية بجامعة عين شمس. وجلساته العلمية التي يطرح في بداية كل منها القضية تلو الأخرى للنقاش..وتستمر الحلقة العلمية من الـ (11) ظهرا..حتى الـ (5) عصرا. قبل أن ننتقل إلى مصر الجديدة أو وسط القاهرة لتناول الغذاء..واستئناف الحديث حول الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية والشئون الإسرائيلية..والتطورات السياسية والفكر الديني بتجلياته المختلفة.نجلس لنتدارس..وننهل من فيض الأب الذي يأتينا كل يوم بجديد..فهو أحرصنا على القراءة والإطلاع..وأكثرنا دأبا. قرابة العشر سنوات بقيت عضوا في هذا الملتقى مع أساتذتي د. عبدالله رمزي..ود. جمال الرفاعي ود. إبراهيم البحراوي..ويشاركنا بانتظام أساتذة من مختلف أقسام كلية الآداب، ومن جامعات أخرى، يفدون علينا يومي الأثنين والأربعاء للاستفادة من الدفء العلمي والإنساني بصحبة العالم الجليل..رائد الدراسات العبرية في مصر والعالم العربي..كما أطلق عليه زملاؤه.
أشعر بحزن عميق لأنه لم يسجل سيرة حياته الحافلة..رغم إلحاحي عليه..فهو عاشق لأدب السيرة الذاتية..وكثيرا ما دارت بيننا أحاديث مستفيضة حول هذا النوع الفني الأثير لديه.."الأيام" لطه حسين..و"اعترافاتي" لجان جاك روسو. لكنه كان قليل الحديث عن نفسه وعن أدواره الوطنية وإنجازاته العلمية..يرفض الخوض فيها تواضعا ممزوجا بالثقة والاطمئنان والرضا لما أنجزه وحققه عبر حياته. غير أن الأمر المؤكد أن د. رشاد الشامي شكَل حالة ثقافية ومعرفية متفردة..فقد عُين معيدا بقسم اللغة العبرية الناشيء عام 1963 في مرحلة البناء..وسرعان ما وقعت كارثة 67..فحوَل القسم هو وزملاؤه إلى قاعدة للتعاون العلمي البناء مع القوات المسلحة..من خلال الترجمة والتحليل السياسي والمتابعة المستمرة لما يصدر عن العدو الإسرائيلي على مدار الـ24 ساعة. ولم يلهه كل ذلك عن تحويل قاعات المحاضرة التابعة لقسم اللغة العبرية إلى "خلية نحل"..للدراسة والتدريب، وإعداد قوائم بالمصطلحات العسكرية باللغة العبرية ليستعين بها "تلامذة كبار" شكلوا معه خط الدفاع الأول في مواجهة إسرائيل إبان حرب 73. ووسط هذا الجو المشحون بالوطنية..أوقف نفسه على خدمة "البلد"..فأنجز عام 69 رسالة الماجستير الأولى من نوعها في مجال الأدب العبري الحديث..مؤمنا بأن الأدب العبري بالذات وسيلة جادة لفهم تعقيدات المجتمع الإسرئيلي ومتاهاته. قال لي أن: "نكسة 67 لم تهز إيمانه بمصر..وأن متابعته المستمرة للساحة الإسرائيلية..زادته يقينا بالنصر..ولم يصدق للحظة أن "إسرائيل" مجتمع لا يقهر". وعقب انتصار 73 بادر مع نفر قليل من الباحثين الواعدين وقتها- السيد ياسين..د. قدري حفني..د. إبراهيم البحرواي- بمهمة استجواب الأسرى الإسرائيليين الذين كانوا يقعون بوفرة في أيدي جنودنا على ضفاف القنال. وتمثلت المهمة وقتها في دراسة مواقفهم والمشاعر الحاكمة لاتجاهاتهم الفكرية..واستدرار المعلومات من أفواههم. وظل يحتفظ حتى آخر لحظة بذكريات وتذكارات من هذه المهمة الجليلة. وضعها أمام عينيه لتذكره بالانتصار الكبير الذي ساهم في صنعه مع أبناء جيله.
وبمصاحبة الانتصار العسكري، كان التحقق الشخصي. أنجز د. رشاد الشامي رسالة الدكتوراه بعنوان: "التيار الروحي في الصهيونية عند إحاد هاعام". تقصى فيها مدراس الفكر الصهيوني..وقرر منذ هذه اللحظة.أن يوقف جهده العلمي على إثراء المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات عن اليهودية والصهيونية وإسرائيل تمتاز بالفرادة والاعتماد على مراجع عبرية أصيلة مع رؤية علمية ثاقبة. فتجاوزت مؤلفاته الـ 22 كتابا، منها في مجال الديانة اليهودية: " "موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية". وفي مجال الأدب العبري: "عجز النصر..دراسة في أدب حرب 1967". ذلك إلى جانب دراسته المتفردة.."الشخصية اليهودية في أدب إحسان عبدالقدوس"..وعمله البحثي ضمن أعداد عالم المعرفة: "الشخصية الإسرائيلية والروح العدوانية". تلك الدراسة التي أعادته لخط المواجهة، من جديد، حين وضعه الموساد على قائمة الاغتيالات التي تستهدف العقول العربية. بسبب خطورة هذه الدراسة التي أزاحت الستار عن الدوافع التي تتنازع الشخصية الإسرائيلية، والتركيبة السيكولوجية للشخصية الجمعية بإسرائيل.
عندما علم د. رشاد بالأمر..لم يفزع..ولم يملأ الدنيا ضجيجا..ولم يحاول الاستفادة إعلاميا بالأمر..بل ظل على عادته إنسانا بسيطا في حياته ومعاملاته مع الآخرين. وتمر أمامي الآن صور عديدة لجولاتنا في أحياء القاهرة الفاطمية. وجلساتنا الودود بوسط القاهرة..نعمل..ونضحك..ونتناقش.
أحببت د. رشاد الشامي وتتلمذت على يديه..قرأت كل كتبـه ومقـالاته، وأشهد أنه تحقيق لوعـد تصورته. أستاذ جامعي مقتدر في مادته، ولديه كفاءة يتسابق طلبته في التعلم منها..ومعارف موسوعية أهلته لوضع كتب ودراسات شكلت علامات طريق في شتى مجالات الدراسات العبرية، حتى صار الأستاذ المرموق والنجم اللامع في سماء الدراسات العبرية بمصر والوطن العربي..قام بالتدريس في مصر والعراق والجزائر والكويت..وفضل البقاء في مصر عله يفيد مثقفيها..ويثري المكتبة العربية بأفكاره وطروحاته المتفردة.
ولعل أهم ما ميز د. رشاد الشامي -من وجهة نظري- روحه الأبوية الخالصة، فكان شديد التواضع، في كبرياء، غير سافر، ويصغي إلى الآخرين دون افتعال أو كذب، يتصدى لحل مشاكلهم دون تردد..مهما كلفه الأمر من عنت. علاوة على أنه أضاف إلى هيبة الاستاذ الجامعي والباحث المرموق قيمة المثقف ورؤيته وقدرته علي الفعل، وتجلت شخصيته حين استطاع أن يحقق لنفسه ذلك التوازن الضروري لمن يريد أن يخاطب العالم والعصر فعلا. وذلك التوازن ـ علي بساطته ـ معضلة بين الباحثين العرب، خاصة في مجال دراسات الصراع العربي- الإسرائيلي المليئة بالضجيج الذي يسحب القارئ بعيدا عن الروح العلمية والمنهجية..لقد حرص الشامي طوال الوقت على الدراسة الرصينة البعيدة عن اللجاج والمهاترات غير العلمية..هكذا كتب رشاد الشامي، وهكذا تكلم وحـاضر وناقش، واستمع إليه الإسرائيليون أنفسهم..وشهدوا لأعماله بالدقة والتعمق والكشف..حتى أنهم سجلوا وناقشوا أكثر من رسالة ماجستير ودكتوراه عن أعماله في نقد العقل الإسرائيلي في جامعة تل أبيب وغيرها..علاوة على كتبه التي يخطفونها من السوق المصرية لقراءتها ودراستها عن كثب..واهتمام كبير واحترام فـائق، حتي وان كانت الكتابة والكلام بالاختلاف.
عندما وصلني نبأ رحيله، ظللت للحظات صامتا في مكاني... لم تصدر عني حركة، حتي الأنفاس أحسستها متجمدة. النبأ وحده أكبر من صمتي... جلست تغمرني وحدة عميقة وشعور بالـكآبـة لا يوصـف، أستعيد لقاءاتي به، في مكتبه بالجامعة، وفي شـقتـه بمصر الجديدة.
قبل رحيله بأسبوعين، اتصل بي علي الهاتف، كان يسأل عن أخباري، عن آخر ما أنجزته في بحثي، حدثته عن تقدم أحرزته، ثم سألته عن أخباره، فقال لي أنه يدعوني لمنزله..وفي غرفة مكتبه..وبين كتبه وأبحاثه..أخبرني أنه يستعـد للقاء ربه، كان يقرأ ويَرتَج قلبه علي اهتزازات حباله الصوتية معها..يعد ثلاثة كتب في الفكر الديني الإسرائيلي للنشر دفعة واحدة..مشروع علمي جديد عكف على إخراجه خمس سنوات..بلا كلل. كتب تحمل دراسات علمية رصينة في "متون التلمود"..ذلك الكتاب الأكثر إبهاما في التاريخ الديني اليهودي..وكتابا يشرح باستفاضة العبادات الدينية اليهودية: الصيام، الصلاة، الختان. وكتابا رابعا عن بدايات الأدب العبري يشكل درة العقد ضمن مشروع واسع عن الأدب العبري الحديث والمعاصر..نشرت منه "الدار الثقافية" للنشر كتابي: "في متاهات الأدب العبري"، و"بياليك أمير الشعراء العبريين".
أوصاني أستاذي..إن لم يمتد به الأجل..بمتابعة نشر الكتب الثلاثة..على أن أستعين بالدكتورة هدى درويش تلميذته وأستاذة مقارنة الأديان بمعهد الزقازيق للدراسات الأسيوية..وكلانا على العهد كنا..وسنبقى إلى يوم يبعثون.
رشاد عبد الله الشامي، أيها الأستاذ والأب والأخ والصديق، هل أقول وداعا؟.. لا، أنت أكبر من الوداع. ومن حسن حظي أنني عشـت في زمن الكبار.... ومن بين هؤلاء الكبار عملاق مصري تعلمت منه كيف أطرح السؤال، وكيف أبقي مخلصا لمن تعلمت منه، علي الرغم من كل ما يحيط بنا من نكسات في عالمنا العربي حتي نكاد نندم علي ما تعلمناه..وما كنت فعلت.د. رشاد الشامي لن أقول وداعا بل أقول سلاما وتحية لك، فالتحية حياة، والتحية هي المحافظة علي وديعتك التي أودعتها لدى كل من لا يزال مؤمنا بأن المقاومة هي كل ما نملك، وبأن الوعي النقدي هو طريق النهوض.
د. رشاد الشامي لا نحسبك من الراحلين عن دنيانا الفانية..ستبقى دوما "الراحل فينا" بعلمك وأبحاثك وسيرتك العطرة..خالدا بوفاء تلامذتك وزملائك..الباقين على العهد..المقيمين شعائر الإخلاص.
مـحـمـد عـبـود
نشرت بجريدة الكرامة
29-10-2006
Labels: ما كنتُ أحسبُ قبل دفنِك في الثرى أن الكواكب في التُراب تَغُور
6 Comments:
أحييك على هذا المقال الرائع النابع من إحساس صادق..رحم الله د.رشاد الشامي وأسكنه فسيح جناته.
أشكرك، شكرا جزيلا. والدكتور رشاد الشامي يستحق الكثير والكثير. وارجو أن نتمكن من الوفاء ببعض حقه علينا
قرأت مقالك عن د. رشاد الشامي، ولقد كان رحمه الله أستاذي ولكنه لم يكن مجرد أستاذ ولكنه كان أخا وصديقا..مقالك الرائع أثبت أن د.رشاد الشامي ترك أجيالا مخلصة تسير على نفس الدرب..شكرا لك مرة أخرى.
سونيا القصاص
كبير المذيعين بالبرنامج العبري
أ/ سونيا القصاص أشكر لك اهتمامك، وأشكر لك، بالأساس، قدرتك على التعبير والتكثيف بكلمات بسيطة، والامساك بواحدة من مآثر شخصية د. رشاد الشامي، رحمه الله. فهو فعلا لم يكن مجرد أستاذ أو عالم جليل، بل كان أخ وصديق وأب..مهتم بكل من حوله، من أصدقاء وزملاء وتلاميذ..يكن مشاعر المحبة الصادقة للجميع، ومشغول، دوما، بتلمس مشاعر الرضا والسرور في عيونهم، والمساهمة في حل مشاكلهم، وإسداء النصح والمشورة الخالصة لوجه الله.
وآسف على التأخر في الرد، فقد كانت سادرا في متاعب الحياة، وكل عام وأنت بخير بمناسبة الأعياد@@@
تأخرت في قرائتي لتلك المدونات مع الاسف والان وانا اقراها فاض الدمع من عيني وشعرت بأن استاذي الحبيب توفى مرة اخرى . لقد كنت من المحظوظين جدا بأعتباري طالبة من اخر دفعه درس لها دكتور رشاد الشامي حيث اننا كنا في السنه التمهيدية للماجستير , وكان دكتور رشاد رحمه الله يدرس لنا مادة قاعه البحث . ولقد انهينا امتحانات ذلك العام في بداية شهر اكتوبر اي ان
ابحاثنا كانت من اواخر الابحاث العلمية التي قيمها دكتور رشاد رحمه الله .
ولا استطيع ان انسى وجهه الهادئ دائم الابتسام وهو يلقني اولى كلماتي التي عرفتها في اللغة العبرية عن طريق اغنية كان يحفظها لي ويعلمني نطقها وكتب لي كلماتها في ورقه صغيرة بخط يده احتفظ بها منذ كنت في العام الاول لي في الجامعة .
وجزاك الله خيرا على تجميعك لكل ما كتب او نشر عن وفاة دكتور رشاد رحمه الله مع العلم انه مهما طالت مدونات رثائه لن تفيه حقه العلمي ولا حقه الانساني كأب واستاذ فاضل اسكنه الله فسيح جناته وتغمده برحمته التي وسعت
كل شئ.
صافيناز رسلان
أشكرك يا صافي على هذه المشاعر الجميلة الطيبة. وتأكدي أن مشاعرنا الطيبة تصل لمن نحبهم، ولو كانو في العالم الآخر. أنا شخصيا أشعر أن د. رشاد معي طوال الوقت. لا استرجعه، هو معي فعلا، ربنا فارقنا جسديا، لكن روحه تحلق حولنا وتحرسنا
Post a Comment
<< Home