فانوس حارتنا
كانت حارتنا أجمل الحارات، وفريقنا الأسد المرعب أقوى الفرق فى لعب الكرة الشراب، لكن أغبياء الحارات الأخرى، كثيرا ما كانوا يجادلوننا فى هذه الحقائق الواضحة وضوح الشمس، الأمر الذى يدخلنا فى معارك معهم ننتصر فيها دائما لأننا الأقوى.
مزايا كثيرة كانت تتمتع بها حارتنا. لكن أجملها كان ذلك الفانوس الذى يزين وسط سمائها كل رمضان، والذى كان يلفت أنظار المارة فى الشارع الرئيسى بحجمه الضخم وألوانه الزاهية وشراشيبه المدلاة تصنع حفيفا يسمع فى سكون الليل بعد أن يهدأ ضجيجنا نحن.
ولأننا أطفال طيبون ولسنا كأوغاد الحارات الأخرى فقد خصنا الله بنعمة جعلت من حارتنا أجمل حارات الحى، بل أجمل حارات العالم. إنه العم فانوس هكذا كان اسمه كهربائى الحارة الذى كان يساعدنا قبيل كل رمضان فى صنع أجمل فوانيس الدنيا، أو للحق كنا نحن الذين نساعده. وهى مساعدة لا تتجاوز تحلقنا حوله فى دائرة ضيقة، تكاد تفقده أعصابه، فيسب من يختار منا بين الحين والآخر، ونردد نحن وراءه السباب مذيلين إياه بتأكيد:أصله واد بايخ ورخم.. فيرضى ويستمر فى عمله الذى لا ينتهى إلا مع تباشير الفجر الرمضانى الأول.
ولأن للعم فانوس مواهب عدة، فهو منشغل دوما. لا يستقر فى مكان واحد لأكثر من دقائق. إما معلقا فى الهواء على سلم خشبى، يمد يدا واحدة لإصلاح مصباح النيون فوق يافطة عبدالله الميكانيكى، أو داخل محل عم مرزوق يتمدد أسفل ماكينة الطعمية، أو مقرفصا يدغدغ، بحنان وصبر، راديو عم حسين الجزار ولا يتركه حتى يصدح بصوت الشيخ محمد رفعت وحينها فقط ننتشر نحن فى الحارة صائحين هيييه.. هييه مقلدين سرب حمام الحاج شكرى الذى يطلقه كل عصارى.
أحيانا كثيرة كنت أسائل نفسى وأصحابى: ماذا لو فارقنا العم فانوس، لا قدر الله، وسكن حارة أخرى؟ فينهرنى أصحابى:يا شيخ.. فأل الله ولا فألك، فاستعيذ بالله.
سألت أبى مرة، وأنا معلق بيده أثناء اصطحابه لى إلى المسجد لصلاة التراويح، لماذا لا يذهب العم فانوس أبدا إلى المسجد، ففاجأنى أبى بضحكة لم أسمعها منه من قبل، ولا من بعد، وقال: العم فانوس يصلى فى مكان آخر! فاندهشت.
وأذكر أننى لم استطع، يومها، الحفاظ على خشوعى فى الصلاة كما علمنى أبى، إذ ظل السؤال يطاردنى ويلح: أين يصلى العم فانوس.. أين يصلى العم فانوس
قصة لـ محمد الروبي
Labels: literature
0 Comments:
Post a Comment
<< Home